الشهيد القائد "محمود عبد الفتاح جودة": تاريخ جهادي مشرف
الإعلام الحربي _ خاص
" أنا وأختي "نور السرايا" بنحب بابا، ومشتاقين إله كتير، وهو شهيد في الجنة، ولما أكبر بدي أسوي عملية استشهادية مثل هبة دراغمة، وهنادي جرادات وميرفت مسعود لأنتقم لبابا وكل أطفال فلسطين من اليهود القتلة" بتلك الكلمات الجهادية بدأت الطفلة بتول " 7 سنوات" ببراءة حديثها ، فيما همست شقيقتها نور السرايا "6 سنوات" بكلمات مفادها أنها تحب "الجهاد الإسلامي".
"بتول ونور السرايا" كلتاهما في المرحلة الابتدائية، حرمتا حنان وعطف والدهما الشهيد القائد محمود جودة " أبو المحتسب" ابن الأربعة والعشرين ربيعاً الذي اغتيل واثنان من مرافقيه في عملية جبانة نفذتها مروحيات الاحتلال الصهيوني مساء يوم السبت (28/2/2004)، بعد استلامه قيادة "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين خلفا للشهيد القائد مقلد حميد والذي استشهد قبل نحو شهرين من ذلك الوقت.
روحه لم تغادرنا
والدة القائد محمود الصابرة المحتسبة، وبعد مرور أعوام على استشهاد فلذة كبدها تقسم أن نسيم طيفه لم يفارقها لحظة واحدة، ولم تغب صورته من بيتها، فهو حاضر في أطفاله وببطولاته وحب الناس له".
وتقول الأم الصابرة: كان محمود مختلفاً تماماً عن أشقائه وأقرانه، من حيث الجرأة والشجاعة والإقدام، والتخلق بالخلق الحسن والصدق"، لافتة إلى انه كان دوماً يلعب دور البطولة والقيادة مع أشقائه وجيرانه في كافة الألعاب التي كانوا يمارسونها بين أزقة المخيم الضيقة.
وتشير أم محمود إلى أنها كانت تتمنى من الله قبل أن تنجب "محمود" أن يكرمها بابن مجاهد يقاتل في سبيل إعلاء كلمة الله ورفعة دينه، فتقول: "استجاب الله لدعوتي في نجلي البكر، والحمد لله على كرمه"، معربةً عن فخرها بالعمل البطولي الذي كان نجلها الشهيد يقوم به ضد الاحتلال ونيله شرف الشهادة في سبيل الله، التي سعى لها سعيها.
حياته ذكرى
وتطرقت الأم الصابرة خلال حديثها المفعم بالحب للشهيد إلى فصول حياة فلذة كبدها المكللة بالفخر قائلة بصوت خافت حزين على الفراق:" لقد طبع في كل لحظة من حياته ذكرى لن يمحوها تقلب السنين، فبعضها كان مواقف بطولية، وأخرى مضحكة، وكثيراً منها محزنة، فمنذ صغره كان رجل مسئولية منحازاً للحق، وكثيراً ما كنت أشفق على حاله من كثرة التعب والانشغال في العمل الجهادي، حتى انه لم يكن يعطي جسده فسحة للراحة كما حال الكثيرين من إخوانه المجاهدين"، واصفةً نجلها الشهيد بالشمعة التي تنصهر من أجل أن تملأ سماء فلسطين نوراً لأهلها، وناراً على أعدائها.
قائد منذ الصغر
أما والده عبد الفتاح فقال إن نجله "أبا المحتسب" تميز بروح القيادة والشجاعة والغيرة على الإسلام، والانحياز للمظلومين من أبناء الأمة الإسلامية".
ويضيف الوالد الصابر :" كان الشهيد محمود كثير الحديث عن فلسطين التاريخية، ويسألني دوماً عن الحياة في مدينة أجداده (أسدود) التي هجّرنا منها عنوة، وكلما كنت أحدثه عن خيراتها وعاداتها وطرقها المؤدية إلى البحر كان يزداد عشقاً وحنيناً إليها، ويزداد كرهاً وحنقاً على بني صهيون".
وأوضح أبو محمود أن استقراره وعائلته في مخيم جباليا للاجئين، جعل محمود يعيش عن قرب آلام اللجوء وقهر الاحتلال، بالإضافة إلى أن المخيم كان يشهد بشكل يومي صدامات عنيفة مع جيش الاحتلال جعلت الشهيد محمود على احتكاك يومي مع الاحتلال، وهو ما عرضه للإصابة مرتين في قدميه خلال الانتفاضة الأولى.
وتطرق أبو محمود خلال حديثه إلى أهم الصفات التي تميز بها نجله الشهيد، قائلاً :" كان محمود يجمع في شخصيته الكثير من الصفات، فهو كان شديد الخوف من الله حريصاً على عدم مخالفته في ابسط الأمور، كما كان شجاعاً صلباً عنيداً لا يعرف الخوف في مواجهة الطغاة وأعداء الله "، لافتاً إلى أن الشهيد كان من محبي لعبة المصارعة والتي كان يمارسها في صالة " السلام" الرياضية التابعة لمسجد الشهيد عز الدين القسام ببيت لاهيا، حيث تم ترشيحه لتمثيل فلسطين في الألعاب الدولية، غير أن ملاحقة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية حالت دون تحقيق حلمه بأن يكون احد أبطال العالم في تلك الرياضة.
الشهيد القدوة
في حين تحدث شقيقه "رامي" عن العلاقة الوطيدة التي كانت تربطه بالشهيد محمود قائلاً :" كان رحمه الله قدوتي ورفيقي في الأفراح والأتراح، وكانت كلماته أفعالاً وسلوكه على الأرض حكمة، حقاً كان حاملا للرسالة المحمدية بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
وتابع قوله :" لقد ترك استشهاد شقيقي لدينا فراغاً لا يملأه أحد، وأورث قلوبنا لوعة لا يسكن لهيبها إلا بلقياه هناك في جنان الفردوس بإذن الله".
ويؤكد رامي أنه رغم مرور سنوات على استشهاد "أبو المحتسب" إلا أن روحه المرحة وكلماته المضيئة وابتسامته التي لم تغب عن محيّاه لازالت تسكن قلوب وعقول محبيه، مؤكداً أن أهم ما تميز به الشهيد محمود الشجاعة والجرأة ورقة القلب والشعور بالمسئولية، لافتاً إلى أن الشهيد كان حريصاً على التواصل مع أسر الشهداء من رفاقه وتوفير كل ما يحتاجونه.
جدير بالذكر أن الشهيد محمود جودة ولد في الثامن عشر من شهر أبريل 1980 في مخيم جباليا، فكان البكر لوالديه بين خمسة ذكور واثنتين من الإناث.
ودرس الشهيد "محمود جودة" المرحلة الأساسية في مدارس مخيم جباليا للاجئين، والمرحلة الثانوية في مدرسة أسامة بن زيد، وأنهى دراسة الثانوية العامة في مدرسة أحمد الشقيري.
واصل شهيدنا المجاهد "أبو المحتسب" تعليمه الجامعي، فالتحق بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية، لكنه لم يكمل تعليمه بسبب ملاحقة قوات الاحتلال، وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية له.
في العام 2001م، تزوج الشهيد محمود برفيقة حياته رغم أنها كانت تعلم انه مطلوب لقوات الاحتلال ولم تتردد هي وعائلتها في قبوله، حيث أنجبت منه طفلتين، وهما: "بتول"، و"نور السرايا".
مشواره الجهادي
وعن حياته الجهادية في صفوف السرايا القدسية تحدث رفيقه المجاهد "أبو أنس"، حيث قال: " كان تقبله الله في فسيح جناته رفيق درب لي لا يفارقني، صديقا صدوقا نصوحا، وفارسا من فرسان الإسلام ومجاهدا صلبا عنيدا في النزال".
وأضاف " لقد كان رجلا حاملا لرسالة الإسلام العظيم، وترك باستشهاده فراغاً كبيراً لا أحد يستطيع أن يملأه". وأكد أن ارتباط الشهيد محمود بمسجد "القسام" كان له أثر كبير في تشربه للأفكار الجهادية وحبّه للجهاد والشهادة، والتزامه بالحركة الإسلامية المجاهدة.
وأشار أبو انس إلى أن الشهيد محمود تعرض لمحنة الاعتقال على أيدي الأجهزة الأمنية السابقة لعدة مرات ولفترات متفاوتة، كان أطولها لمدة ثمانية أشهر على خلفية مشاركته في العمل العسكري مع إخوانه المجاهدين في "سرايا القدس".
ويردف "أبو أنس" قائلاً: "التحق الشهيد محمود في صفوف سرايا القدس منذ بداية انتفاضة الأقصى، حيث قدم نفسه كاستشهادي في صفوف السرايا، وكان متحمساً للعمل العسكري بشكل كبير، حيث قام بتشكيل بعض المجموعات العسكرية لسرايا القدس في منطقة رفح "مشيراً إلى أن أول تجربة له في العمل العسكري كانت المشاركة مع الشهيد القائد مقلد حميد في إعداد وتجهيز الشهيد "نبيل العرعير" المنتقم الأول في انتفاضة الأقصى بتاريخ 26/10/2000.
ويضيف قائلاً: "ترأس الشهيد المجموعات والخلايا المكلفة بإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون، كما كان يشارك بنفسه في العمليات البطولية، مشيراً إلى متابعته لكافة الأمور الميدانية لمجموعات وخلايا سرايا القدس في مناطق (بيت حانون، جباليا، الشاطئ، الزيتون، النصيرات، دير البلح، رفح)، كما كان على اتصال مباشر مع بعض خلايا سرايا القدس في الضفة الغربية، فكان يتابع معهم كيفية تنفيذهم للمهمات العسكرية وإصدار البيانات"، مشدداً على أن الشهيد أشرف على العديد من العمليات الجهادية والتي كان آخرها تجهيز الاستشهادي عبد الحميد خطاب بتاريخ 27/2/2004.
رحلة الخلود
في مساء السبت 28/2/2004 كان الشهيد محمود جودة متوجهاً إلى مخيم جباليا برفقة اثنين من مساعديه (أيمن وأمين الدحدوح) حين استهدفت الطائرات الصهيونية سيارتهم بعدة صواريخ بينما كانت تسير في منطقة الصفطاوي شمال غزة، الأمر الذي أدى إلى استشهاد ثلاثتهم بعد رحلة عطاء سطروها بمداد أحمر قان.