الشهيد المجاهد "عمر محمد جرغون": رحل قبل أن يهدي أطفاله قُبلة الوداع
الإعلام الحربي - خاص
لم يعد هنا في فلسطين أي معنى للبراءة والطفولة، بعد أن توغل الاحتلال في قتلها بدمٍ بارد، وأسكن الوجع في ضلوعها الهشة وهي لا تزال غير مدركة لحقيقة البعاد أو الفراق لمن يفترض بهم أن يكونوا بالقرب منها ليحنوا عليها تارة ويقسوا تارة أخرى حباً لطفولتها وخشية عليها من وحشة الأيام ورغبة في تربيتها وإعدادها لمستقبل واعد ..
كم هي صعبة تلك المشاهد التي نرى فيها أطفال لم تتجاوز أعمارهم بين العام ونصف وأربعة أعوام، يحتضنون صورة والدهم الشهيد يغدقون عليها بالقبل الحارة، وتارة تراهم يغارون عليها من الأطفال الآخرين الذين تربطهم بهم علاقة قرابة، ويطلبون منهم الابتعاد لإفساح المجال لهم البقاء أطول فترة ممكنة بالقرب من والدهم الذي رحل عنهم فجأة قبل حتى أن يطبع على وجوههم قبلة الوداع كما اعتاد دوماً عند خروجه للعمل ... لكنه رحيل المهاجرون من الدنيا الفانية إلى ضفاف المجد بانتظار قدوم أحبتهم إليهم في ضيافة الله عند سدرة المنتهى..
رغم تلك المشاهد المؤلمة والقاسية التي ربما تتكرر في الكثير من البيوت الفلسطينية، يبقى عزاؤنا في الله الذي وعد الشهيد عند سقوط أول قطرة من دمه المغفرة والفوز بجنان النعيم، وتكفل بمن يغدق على أطفاله الحب والحنان ويحسن تربيتهم أن يكون رفيق حبيبه المصطفى صلوات الله عليه وسلم في جنة النعيم.
للطفولة كلمتها
الطفلة " لما" عام ونصف ابنة الشهيد عمر جرغون لم تستطع أن تخفي حبها الشديد لوالدها، حيث أسرعت إلى صورته واحتضنتها وأغدقت على وجهه الباسم عدة قبلات، وشاركتها تلك اللحظة شقيقتاها "ليان" ابنة الأربعة أعوام، و "رهف" ابنة الثلاثة أعوام، و أخذت تشير بأصبعها إلى صورة والدها وهي تردد بصوتها الطفولي "بابا بابا"، فأبكت الحضور، لكن جدها أسرع إلى احتضانها وتقبيلها ودموع عينيه تسيل على وجنتيه رغم محاولته إخفاءها.
وبدأ والد الشهيد عمر الحاج محمد جرغون "أبو رسمي" 83 عاماً حديثه بالحمد والثناء على الله الذي أكرمه باستشهاد نجله عمر، قائلاً :" كنت اعلم أن الطريق الذي يسير عليه نجلي سيقوده إلى الشهادة في سبيل الله، لكني لم امنعه عن هذا الطريق الذي آمنت به وكنت واحداً من المجاهدين الذين قاتلوا من اجل فلسطين في فترة الشباب"، مؤكداً أن العدو الصهيوني الذي احتل أرضنا بالدماء والقتل لن يخرج منها إلا بالدماء والتضحيات الجسام.
وأشاد الوالد الصابر بأخلاق نجله العالية، وبره له ولوالدته التي وافتها المنية قبل نحو عامين، وعطفه وحبه لأرحامه، مشيراً إلى ما كان يقوم به الشهيد من جهد كبير لمساعدة والدته التي كانت تعاني من مرض القلب والضغط والسكر الذي الم بها قبل وفاتها.
وواصل أبو رسمي حديثه قائلاً :" عمر كان لا يتوانى عن توفير كل ما تحتاجه والدته من علاج وطعام، كما أشقائه، بل أنه كان يحرص على البقاء بجانبها رغم مشاغله الكثيرة، والسهر على راحتها حتى توفاها الله"، مؤكداً أن رحيل والدته شكل صدمة كبيرة على نفسية عمر.
صاحب السرية والكتمان
وذكر الوالد المحتسب إلى أن ميلاد نجله عمر جاء بتاريخ 15/7/1985 م، وأنه عاش في كنف الأسرة التي تتكون منه وأربعة أشقاء وأخت واحدة. ودرس الشهيد عمر للمرحلة الإعدادية، ثم توجه بعد ذلك إلى تعلم فن قص وتصفيف الشعر "حلاقة"، حيث تمكن من فتح محل خاص به، كان له مصدر دخل ورزق.
شهيدنا عمر متزوج من زوجة صابرة محتسبة، وتوج هذا الزواج أن رزقه الله ثلاثة أطفال " ليان" أربع سنوات، ورهف "ثلاث" سنوات، ولما "عام ونصف".
ومن جانبه تحدث شقيقه نظمي عن العلاقة التي كانت تربط الشهيد عمر بباقي أشقائه، موضحاً أن علاقتهم ببعضهم البعض كانت يسودها الحب والتفاهم رغم وجود اختلاف في وجهات النظر حول بعض القضايا التي تتعلق بأمور الحياة العادية.
ووصف نظمي لحظة ارتقاء شقيقه عمر شهيداً بالصدمة التي ألمت بالأسرة، قائلاً :" لم نكن في الأسرة نتوقع استشهاد عمر، لأننا لم نكن على دراية بماهية عمله في حركة الجهاد، الا بعد استشهاده"، مؤكداً أن شقيقه "عمر" لم يكن يطلع أحداً مهما كانت ثقته به على طبيعة عمله ضمن صفوف سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
فيما أشاد صديقه أبوعلي بما كان يتمتع به الشهيد من أخلاق عالية والتزام، ومن سرية عالية، وشجاعة منقطعة النظير.
ركب الجهاد
عاش الشهيد عمر كما كل أبناء فلسطين تحت نيران الاحتلال، ورأى بأم عينه ظلم بني صهيون لأبناء شعبه، فكان تواقاً للثأر والانتقام من هذا العدو المتغطرس، فقد أيقن هذا الأسد الهصور كما كل الشباب الفلسطيني المجاهد أن لا عزة ولا كرامة ولا إنسانية لشعبنا إلا برفع لواء الجهاد في وجه بني صهيون، العدو الحقيقي لله وللمؤمنين، فبدأ مرحلة البحث عن الوسيلة التي سيحقق بها غايته إعلاء كلمة الله والدفاع عن مسرى الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلم، وكان له ذلك في عام 2003م، حيث التحق في صفوف حركة الجهاد الإسلامي، وكان سباقاً للمشاركة في أعراس الشهداء ومواكب زفافهم للحور العين، وفي الفعاليات المناهضة للعدو الصهيوني.
الشهيد عمر منذ اللحظة الأولى لانضمامه لحركة الجهاد الإسلامي سارع إلى الالتحاق في وحدة الاستشهاديين، هذا الأمر تتطلب منه اخذ مزيداً من الاحتياطات الأمنية والسرية.
ويؤكد أحد المجاهدين مشاركة الشهيد في أكثر من عملية استشهادية، حيث أصيب في إحدى العمليات وتم التكتم على إصابته، هذا ولم يتسنى لنا الكشف عن طبيعة المهمات التي شارك الشهيد فيها.
رحيل الزهور
اعتاد الشهيد عمر على اتخاذ كافة التدابير الأمنية في تحركاته، ولكن قدر الله نفذ، حيث أدى الشهيد صلاة المغرب في صالونات الحلاقة الذي يمتلكه صديقه الشهيد حسن كوارع، ما أن خرج الاثنان من المحل باتجاه الدراجة النارية حتى تم استهدافهم بصاروخ أطلق من طائرة استطلاع صهيونية، استشهد على اثره الشهيد حسن على الفور، وأصيب شقيقه، والشهيد عمر الذي رقد في العناية المكثفة قرابة العشرة أيام نظراً لصعوبة إصابته التي جاءت في منطقة الرأس ليرتقي الى علياء المجد يوم 8/19/ 2014م .